فصل: فصل في الوجوه الإعرابية لقوله: {ذَوِي}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية (177).
قرأ الجُمْهُور برفع {البِرُّ} وحمزة، وحفصٌ عن عاصم بنصبه، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ {لَيْسَ} و{أَنْ تُولُّوا} خبرها في تأويل مصدّرٍ، أي: ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ ف {البرُّ} الخبرٌ مقدَّمٌ، و{أَنْ تُوَلُّوا} اسمُها في تأويل مصدرٍ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ؛ ولا يوصف به، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرِ؛ وتقديمُ خَبَر {لَيْسَ} على اسمها قليلٌ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ، قال: لأنَّها تشبه ما المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ، لكنه محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبقول الشاعر الطويل:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ** فَلَيْسَ سَوَاءَ عَاِمٌ وَجَهُولُ

وقال آخر: الطويل:
أَلَيْسَ عَظِيمًا أَنْ تُلِمُ مُلِمَّةٌ ** وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ

وفي مصحف أُبَيٍّ، وعبْد الله {بِأَنْ تُوَلُّوا} بزيادةِ الباء، وهي واضحة؛ فإن الباء تزادُ في خبر {لَيْسَ} كثيرًا.

.فصل في الاختلاف في أصل ليس:

الجمهُور على أن {لَيْسَ} فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ:
اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال؛ كقَولك، لَسْتُ، ولَسْنَا، ولَسْتُمْ، والقَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ، وهذا منقوضٌ بقوله: إِنَّنِي، ولَيْتَنِي، ولَعَلَّني.
وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور:
الأوَّل: أنَّها لو كانت فعلًا، لكانت فعلًا ماضِيًا ولا يجوزُ أن تكون فعلًا ماضيًا؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفيِ الحالِ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا: إنه فعْلٌ ماضٍ.
وثانيها: أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ، فنقول: لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلًا ونقلًا.
وقولُ مَنْ قال: إن {لَيْسَ} داخلٌ على ضمير القصَّة، والشأن، وكونُ هذه الجملةِ تفسيرًا لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك، جاز مثلُه في ما.
وثالثها: أَنَّ الحرف ما يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة، فإنك لَو قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدُ لم يتمَّ الكلام، لابد أن تقول: لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا.
ورابعُها: أن {لَيْسَ} لو كان فعْلًا، لكان ما فعلًا، وهذا باطلٌ، فذاك باطلٌ، بيان الملازمةِ: إن {لَيْسَ} لو كان فعْلًا لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترنًا بزمان مخْصُوصٍ، وهو الحالُ، وهذا المعْنَى قائمٌ في ما فيجبُ أن تكونَ ما فعْلًا، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلًا، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى: {لَيْسَ} كلمةٌ جامدةٌ، وضعت لنَفْي الحالِ، فأشبهت ما في نفْي الفعليَّة بذلك.
وخامسُها: أنَّك تَصِلُ ما بالأفْعَال الماضيةِ، فتقولُ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، ولا يجوزُ أنْ تصلَ ما ب {لَيْسَ} فلا تَقُولُ: مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ.
وسادسها: أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل.
وأجابَ القَاضِي، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ {لَيْسَ} قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه؛ كقولهم: جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْدًا.
وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولم: أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا.
وعن الثَّالث: أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة.
وعن الرَّابع: أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه.
وعن الخَامِس: أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ: ما للحال و{لَيْسَ} للماضي، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما.
وعن السَّادس: أن تغير البناءِ وإن كان على خلافِ الأَصل، لكنَّه يجبُ المصيرُ إِلَيْه؛ لدلالةِ العَمَل بما ذكر، وذكَرُوا وجوهًا أُخَرَ مخالفةً للنَّحْوِ.
قوله: {قِبَلَ} منصوبٌ على الظَّرْف المكانيِّ بقوله: {تُوَلُّوا}، وحقيقةُ قولِكَ: زَيْدٌ قِبَلَكَ أي في المكان الَّذي يقابلُكَ فيه وقد يُتَّسَعُ فيه، فيكون بمعنى عِنْدَ؛ نحو قولك: قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ، أي عِنْدَهُ ديْنٌ.
قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} في هذه الآية خَمْسَة أوجه:
أحدها: أن {البِرَّ} اسم فاعل من: بَرَّ يَبَرُّ، فهو برُّ والأصل: بَرِرٌ بكسر الراء الأولى بزنة فطِنٍ فلمَّا أريد الإدغام، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها؛ فعلى هذه القراءة: لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان؛ كأنه قيل: وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن.
الثاني: أنَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن؛ كقوله تعالى: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] أي: لذي التقوى؛ وقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله} [آل عمران: 163] أي: ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث: أن يكون الحذف من الثاني: أي: وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى؛ ونظير ذلك: لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَمًا، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ ولا يناسبُ: ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93]، أي: حُبَّ العجل، ويقولون: الجود حاتم، والشعر زهير، والشجاعة عنترة، وقال الشاعر: الطويل:
......... ** فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ

أي: ذات إقبالٍ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة: المتقارب:
وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ** خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ

أي: كخلالة أبي مرحب، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ: ومثل هذه الآية الكريمة قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19]، ثم قال: {كَمَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 19]؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ.
الرابع: أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً؛ نحو: رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد: لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت وَلَكِنَّ البَرَّ بفتح الباء وإنَّما قال ذلك؛ لأن لبَرَّ اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل.
الخامس: أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل، نحو: رجل عدلٌ، أي: عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه، نحو: أقائمًا، وقد قعد الناس؛ في قولٍ، هذا رأي الكوفيين، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ، وأن أصله: بارٌّ، فجعل برًّا، وأصله ك سِرٍّ، ورَبٌّ أصله رابٌّ، وقد تقدم.
وجعل الفراء {مَنْ آمَنَ} واقعًا موقع الإيمان، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه؛ كأنه قال: وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ قال: والعَرَبُ تجعل الاسم خبرًا للفعل، وأنشد في ذلك: الطويل:
لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ** وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي

جعل نبات اللحية خبرًا للفتيان، والمعنى: لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى.
وقرأ نافعٌ، وابن عامر: {وَلَكِن البِرُّ} هنا وفيما بعد بتخفيف {لَكِنْ} وبرفع {البِرُّ}، والباقون بالتَّشديد، والنَّصب، وهما واضحتان ممَّا في قوله: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة: 102].
وقرئ: {وَلِكنَّ البَارَّ} بالألف، وهي تقوِّي أنَّ {البِرَّ} بالكسر المراد به اسم الفاعل، لا المصدر.
قال أبو عُبَيْدَةَ: {البِرُ} هاهنا بمعنى البَارِّ، كقوله: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] أي: للمتَّقين، ومنه قوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] أي: غائرًا، وقالت الخنساء: البسيط:
وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ

أي: مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر، وقيل: البر: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، قال تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الإنسان: 13].
ووحَّد الكتاب لفظًا، والمراد به الجمع؛ وحسَّن ذلك كونه مصدرًا في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإنَّ من آمن به، فقد آمن بكل الكتب، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة.

.فصل في الوجوه الإعرابية لقوله: {ذَوِي}:

قوله: {ذَوَي} فيه وجهان:
أحدهما- وهو الظاهر- أنه مفعول ب {آتى} وهل هو الأول، و{المَالَ} هو الثاني؛ كما هو قول الجمهور، وقدِّم للاهتمام، أو هو الثاني: فلا تقديم، ولا تأخير؛ كما هو قول السُّهَيلِيِّ؟
والثاني: أنه منصوب ب {حُبِّهِ}؛ على أن الضمير يعود على {مَنْ آمَنَ}؛ كما تقدَّم.

.فصل في المراد ب {ذَوِي القُرْبَى}:

من النَّاس من حمل ذَوِي القُرْبَى على المذكور في آية النفل والغنيمة، وأكثر المفسِّرين على ذَوِي القُرْبَى للمعطين، وهو الصحيح؛ لأنَّهم به أخصُّ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأوبين، أو بولادة الجدَّين، أو أبي الجدَّين، ولا يقتصر على ذوي الرَّحم المحرم كما حكي عن قوم؛ لأنَّ المحرميَّة حكم شرعيٌّ، والقرابة لفظةٌ لغويةٌ موضوعةٌ للقرابة في النَّسب، وأن تفاوتوا في القرب والبعد.
قوله: {واليَتَامى}ظاهره أنه مصوب، عطفًا على ذوي.
وقال بعضهم: هو عطف على {القرْبَى} أي: آتى ذَوي اليَتَامى، أي: أولياءهم؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحُّ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميِّز، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئًا، ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ الإيتاء يصدق، وإن لم لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء، يقال: آتيْتُ السُّلْطَانَ الخَرَاجَ، وإنَّما أعطيت أعوانه.
وأيضًا: إذا كان اليتيم مراهقًا عارفًا بمواقع حظَّه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل، ويلبس، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به، جاز دفعها إليه، هذا على قول من قال: إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصِّغر.
وقال بعضهم: أن هذا الاسم قد يقع على الصَّغير، وعلى البالغ؛ لقوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وهم لا يؤتون إلاَّ إذا بلغوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمَّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه؛ فعلى هذا: إن كان اليتيم بالغًا، دفع إليه، وإلاَّ دفع إلى وليه، والمساكين أهل الحاجة، وهم ضربان: من يكفُّ عن السؤال، وهو المراد هاهنا، ومنهم من يسأل وينبسط، وهم السائلون، وإنما فرق يبنهما؛ من حيث يظهر على السماكين المسكنة ممَّا يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله.
وابن السبيل اسم جنسٍ أو واحد أريد به الجمع، وسمِّي {ابن السَّبيل}، أي: الطريق، لملازمته إيَّاه في السَّفر، أو لأنَّ الطريق تبرزه، فكأنها ولدته.
قوله: {وَفِي الرقاب} متعلِّق ب {آتى} وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ضمن {آتى} معنى فعل يتعدى لواحد؛ كأنه قال: وضع المال في الرِّقَاب.
والثاني: أن يكون مفعول {آتى} الثاني محذوفًا، أي: آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها، أو تخليصها؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون، أو الأسارى، أو الأرقَّاء يشترون، فيعتقون، وكلٌّ قد قيل به.
والرِّقَابُ: جمع رَقَبَةٍ، وهي من مؤخَّر أصل العنق، واشتقاقها من المراقبة؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم؛ وبهذا المعنى: يقال: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ، ولا يقال: أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً؛ كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها رَقُوبٌ؛ لأجل مراقبة موت ولدها.
قوله: {وَأَقَامَ الصلاة} عطف على صلة {مَنْ}، وهي: {آمَن}، {وآتى} وإنما قدم الإيمان، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة، وثنَّى بإيتاء المال؛ لأنه أجلُّ شيء عند العرب، وبه يمتدحون، ويفتخرون بفكِّ العاني: وقِرَى الضِّيفان، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.
قوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ} في رفعة ثلاثة أوجه:
أحدها: ذكره الزمخشري: أنه عطف على {مَنْ آمَنَ} أي: ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون.
والثاني: أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الموفون، وعلى هذين الوجهين: فنصب الصابرين على المدح؛ بإضمار فعل، وهو في المعنى عطف على {مَنْ آمَنَ}، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات، خولف بين وجوه الإعراب.
قال الفارِسيُّ: وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير مشتملًا على جملٍ متعددةٍ، بخلاف اتّفاق الإعراب؛ فإنه يكون جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغة ما الجمل المتعدِّدة.
وقال أبو عبيدة: ومن شأن العرب، إذا طال الكلام: أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق؛ كقوله تعالى في سورة النساء: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] وفي المائدة: {والصابئون} [المائدة: 69] وقال الفرَّاء: إنما رفع {المُوفُونَ}، ونصب {الصَّابِرِينَ}؛ لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد، وقالوا فيمن قرأ {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 3] بنصب {حَمَّالَةَ}: إنه نصب على الذَّمِّ.
فإن قيل: لم لا يجوز على هذين الوجهين: أن يكون معطوفًا على ذوي القربى، أي: وآتى المال الصابرين: قيل: لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ، وهو {المُوفُونَ} فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة؛ كقوله: {وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] ثم قال: {أُوْلَئِكَ} ففصل بين المبتدأ والخبر.
قلنا: لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة.
التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك؛ وعلى هذا الوجه: يجوز في {الصَّابِرِينَ} وجهان:
أحدهما: النَّصيب؛ بإضمار فعْلٍ؛ لما تقدَّم، قال الخليل: المدح والذمُّ ينصبان على معنى أَعْني الظريف وأنكر الفراء ذلك لوجهين.
أحدهما: أنَّ أَعْنِي إنما يقع تفسيرًا للمجهول، والمدح يأتي بعد المعروف أعني أخاك، وهذا مما لم تقله العرب أصلًا.
والثاني: العطف على ذَوِي القُرْبَى، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ، لأن {المُوفُونَ} على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها.
قوله: {إذَا عَاهَدُوا} إذا منصوبٌ ب {المُوفُونَ}، أي: الموفون وقت العهد، من غير تأخير الوفاء عن وقته، وقرأ الجحدريُّ: {بِعُهُودِهِمْ}.
وحكى الزَّمخشريُّ قراءة {والمُوفِينَ}، {والصَّابِرِينَ} وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: {وَالمُوفُونَ}، {والصَّابِرُونَ}.
وقوله: {فِي البأساء والضراء}: قال ابن عبَّاس: يريد الفقر بقوله: {البَأْسَاءِ}، والمرَضَ بقوله: {وَالضَّرَّاءِ}، وفيها قولان:
أحدهما: وهو المشهور أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ وألفهما للتأنيث، فهما اسمان على فَعْلاَء ولا أفْعَل لهما؛ لأنَّهما ليسا بنعتين.
والثاني: أنهما وصفن قائمان مقام موصوف، والبؤس، والبأْساء: الفقر؛ يقال بئس يبأس، إذا افتقر؛ قال الشاعر: الطويل:
وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً ** يُنَاغِي غَزَالًا سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ

قوله: {وَحِينَ البَأْس} منصوب بالصَّابِرِينَ، أي: الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة، والبأْسُ: شدَّة القتال خاصَّة، بؤس الرَّجل، أي: شجع.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد القتال في سبيل الله، وأصل البأس في اللغة: الشِّدَّة؛ يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدَّة و{بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي: شديد، ثم يسمَّى الحرب بأسًا، لما فيه من الشِّدَّة، والعذاب يسمَّى بأسًا؛ لشدَّته، قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84] {فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} [الأنبياء: 12] {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءَنَا} [غافر: 29].
قوله: {أولئك الذين صَدَقُوا} مبتدأ وخبر، وأتى بخبر {أُولَئِكَ} الأولى موصولًا بصلةٍ، وهي فعلٌ ماضٍ؛ لتحقُّ اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم، واستقرَّ، وأتى بخبر الثانية بموصولٍ صلته اسم فاعلٍ، ليدَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّدًا، بل صار كالسَّجيَّة لهم، وأيضًا: فلو أتى به فعلًا ماضيًا، لما حسن وقوه فاصلةً.
قال الواحدي رحمه الله: إن الواوات في الأَوْصَاف في هذه الآية للجمع، فمن شرائطِ البِرِّ، وتمام شَرْط البَارِّ: أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدٍ منها، لم يستحقَّ الوصف بالبِرِّ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبِرِّ، وكذا الصابر في البأساء، بل لا يكون قائمًا بالبِرِّ إلاَّ عند استجماع هذه الخصال، ولذلك قال بعضهم: هذه الصفة خاصَّة للأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلُّها.
وقال آخرون: هي عامَّة في جميع المؤمنين، والله أعلم. اهـ. باختصار.